كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم ما يقول هذا القائل: إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف، هل يكون بارًا في يمينه بذلك؟ فإن قال: لا يبر لزمه مثله في الطلاق وإن قال: يبر، كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقًا لها. وأجود من هذا، أن يكون قوله على التراخى، ما لم يقيده بالفور، بلفظه أو نيته.
وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثًا، إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن فعلت لما لا تقدر هي عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه، وفى هذا ضعف لا يخفى، لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهى زيادة في اللفظ ونقصان في المعنى، فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق، وصار كله كلامًا واحدا، وهى لم تعلق كلامها، وإنما نجزته. فالمماثلة تقتضى تنجيزا مثله.
وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه، لأنه لم يرده قطعًا، ولا خطر بباله، فيمينه لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعرف، والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك، والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب، وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد، في اعتبارهم عرف الحالف ونيته وسبب يمينه، والله أعلم.
المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها. ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة، والعلف عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون.
وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا. لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظئر للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئًا بعد شيء ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة، وهو عين، ولأن اللبن حصل بعلفه وخدمته، فهو كحصول المغل ببذره وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر، فهذا من أصح القياس.
وأيضًا فإنه يجوز أن يقفها، فينتفع الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عينه.
وأيضًا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها. وهى باقية على ملك المانح. فتجرى منحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحة المنافع، فإذا كان اللبن يجرى مجرى المنفعة في الوقف والعارية، جرى مجراها في الإجارة.
وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنْ أرْضعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
فسمى ما تأخذه المرضعة في مقابلة اللبن أجرا، ولم يسمه ثمنا.
وأيضًا فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها، والماء لم يحصل بعمله، فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى.
وأيضًا: فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز، لأنه معلوم بالعرف. وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان.
وقياس المنع على تحريم بيع اللبن في الضرع قياس فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره، وما يتحصل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز. والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئًا بعد شئ، فاللبن في ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا، فهذا القول هو الصحيح.
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد.
فالحيلة في لزومه: أن يؤجره الحيوان مدة بدراهم مسماة، ثم يأذن له في علفه بها، ويبيحه اللبن.
وهذه الحيلة تتأتى في إجارة البقرة، والناقة، والجاموس، إذ يمكن الحرث عليها وركوبها، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها، فالطريق في ذلك: أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة، ويوكله في النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها ويبيحه اللبن.
المثال السبعون: إذا دفع إليه ثوبه وقال: بعه بعشرة، فما زاد فلك. فنص أحمد على صحته، تبعًا لعبد الله بن عباس، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم.
ووجه الخلاف. أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد، ومن رجح جانب الإجازة أو المضاربة أبطله، لأن الأجرة والربح الذي جعل له مجهول.
والصحيح: الجواز لأن العشرة تجرى مجرى رأس المال في المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كله له، كان بمنزلة الإبضاع، إذا دفع إليه مالًا يضارب به، وقال: ما ربحت فهو لك، فليس العقد من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه.
فالحيلة في ذلك: أن يقول: وكلتك في بيعه بعشرة، فإن بعته بأكثر فلا حق لى في الزيادة، فيصح هذا. وتكون الزيادة للوكيل.
المثال الحادى والسبعون: قال الإمام أحمد، في رواية مهنا: لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه، وهو أحب إلى من المقاطعة. يعنى أن يقاطعه على كيل معين، أو دراهم أو عروض.
وكذلك نص في رواية الأثرم وغيره، في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين: أن ذلك جائز.
وقال أحمد أيضًا: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع، لحديث جابر: «أَنَّ النبي صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشّطْرِ».
ونقل عنه أبو داود فيمن يعطى فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس.
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: إذا كان على النصف والربع فهو جائز.
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه: أنه جائز.
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها، وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز. ونص في رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز.
وقال في المغنى: وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها.
وحكى عن ابن عقيل المنع منه. واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطّحَّانِ».
قال الشيخ: وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته. وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل.
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها، والسمك بينهما نصفين.قال في المغنى: فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمك بينهما شركة. وقال ابن عقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها.
ولو كان له على رجل مال، فقال لرجل: اقبضه منه، ولك ربعه، أو ثلثه، أو ما اقتضيته منه فلك منه الربع أو الثلث، فهو جائز وكذلك لو غصبت منه عين، فقال لرجل: خلصها لى، ولك نصفها، جاز أيضًا.
ولو غرق متاعه في البحر، فقال لرجل: ما خلصته منه، فلك نصفه، أو ربعه، جاز.
ولو أبق عبده، فقال لرجل، أو قال: من رده على فله فيه نصفه، أو ربعه، أو شردت دابته فقال ذلك، صح ذلك كله.
قلت: وكذلك يجوز أن يقول له: انقض لى هذا الزيتون بالسدس، أو الربع. أو اعصره بالثلث، أو الربع، أو اكسر هذا الحطب بالربع، أو اخبز هذا العجين بالربع، وما أشبه ذلك. فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله، وهو أحب من المقاطعة في بعض الصور.
ولم يجوز الشافعى وأبو حنيفة شيئًا من ذلك.
وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعى ولك نصفه، فذلك جائز، وإن قال: احصد اليوم، فما حصدت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وفى العينية أنه يجوز.
فإن قال: القط زيتونى فما لقطت فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سحنون أنه لا يجوز. ولو قال: انقض زيتونى، فما نقضت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب.
فإن قال: اقبض لى المائة دينار التي على فلان، ولك عشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وهب. وعند أشهب لا يجوز.
فلو قال: اقبض دينى الذي على فلان، ولك من كل عشرة واحد، ولم يبين قدر الدين، لم يجز عند ابن وهب. وأجازه ابن القاسم وأصبغ.
والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول، والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك.
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر. وقد دلت السنة على جواز ذلك، كما في المسند والسنن عن رويفع بن ثابت، قال: «أنْ كانَ أَحَدُنَا في زَمَنِ رَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أنّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصفُ، وَإَنْ كانَ أَحَدُنَا لَيَطيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرَّيشُ وللآخَرِ القِدْح».
وأصل هذا كله: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وأجمع المسلمون على جواز المضاربة. وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه. فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها.
فهذا محض القياس، وموجب الأدلة. وليس مع المانعين حجة، سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول. وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة.
واستثنى قوم بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره.
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤاجرة، لأنه في الإجارة يحصل على سلامة العوض قطعًا، والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر. وقاعدة العدل في المعاوضات: أن يستوى المتعاقدان في الرجاء والخوف. وهذا حاصل في المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك، فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما، وإن تلفت عليهما، وهذا من أحسن العدل.
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبى سعيد الذي رواه الدارقطني: «نُهِى عَنْ قَفِيزَ الطّحَّانِ» وهذا الحديث لا يصح. وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع.
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها، لأن ماعداه مجهول، فهو كبيعها إلا قفيزا منها، فأما إذا كانت معلومة القفزان، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها، صح حبا ودقيقًا. أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة. وأما إذا كان دقيقًا شاركه في ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى.
فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعروض؟
قيل: بل أصح الروايتين صحتها، وإن قلنا بالرواية الأخرى، فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض، لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف في رقبة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا.
فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا، أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجًا يتضمن محذورين.
أحدهما: أن يكون طحن قدر الأجرة ونسجه مستحقًا على العامل بحكم الإجارة، ومستحقًا له بحكم كونه أجرة، وذلك متناقض. فإن كونه مستحقًا عليه يقتضى مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقًا له يقتضى مطالبة المؤجر به.
الثانى: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه، وذلك ممتنع.
قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة، وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سلم أنه من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك، فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه مستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه، فأى محذور في ذلك؟